فصل: النوع السادس والعشرون: في الاشتقاق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الخامس والعشرون: في الاقتصاد والتفريط والإفراط:

اعلم أن هذه المعاني الثلاثة من الاقتصاد والتفريط والإفراط توجد في كل شيء: من علم، وصناعة، وخلق، ولا بد لنا من ذكر حقيقتها في أصل اللغة حتى يتبين نقلها إلى هذا النوع من الكلام.
فأما الاقتصاد في الشيء فهو من القصد الذي هو الوقوف على الوسط الذي لا يميل إلى أحد الطرفين، قال الله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فظلم النفس والسبق بالخيرات طرفان، والاقتصاد وسط بينهما، وقال الله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} فالإسراف والإقتار طرفان، والقوام وسط بينهما، وقال الشاعر:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ** إن التخلق يأتي دونه الخلق

وأما التفريط فهو التقصير والتضييع، ولهذا قال الله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أي: ما أهملنا ولا ضيعنا.
وأما الإفراط فهو: الإسراف وتجاوز الحد، يقال: أفرط في الشيء إذا أسرف وتجاوز الحد.
والتفريط والإفراط هما الطرفان البعيدان، والاقتصاد هو الوسط المعتدل، وقد نقلت هذه المعاني الثلاثة إلى هذا النوع من علم البيان.
أما الاقتصاد: فهو أن يكون المعنى المضمر في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في منزلته.
أما التفريط والإفراط فهما ضدان: أحدهما: أن يكون المعنى المضمر في العبارة دون ما تقتضيه منزلة المعبر عنه، والآخر: أن يكون المعنى فوق منزلته.
والتفريط في إيراد المعاني الخطابية قبيح لا يجوز استعماله بوجه من الوجوه، والإفراط يجوز استعماله، فمنه الحسن، ومنه دون ذلك.
فمما جاء من التفريط قول الأعشى:
وما مزبد من خليج الفرا ** ت جون غواربه تلتطم

بأجود منه بماعونه ** إذا ما سماؤهم لم تغم

فإنه مدح ملكا بالجود بماعونه، والماعون: كل ما يستعار من قدوم أو قصعة أو قدر، أو ما أشبه ذلك، وليس للملوك في بذله مدح، ولا لأوساط الناس أيضا، وفي مدح السوقة به قولان، ومدح الملوك به عيب وذم فاحش، وهذا من أقبح التفريط.
ومما يجري هذا المجرى قول الفرزدق:
ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ** على حاضر إلا نشل ونقذف

كلانا به عر يخاف قرافه ** على الناس مطلي المساعر أخشف

هذا رجل ذهب عقله حين نظم هذين البيتين، فإن مراده منهما التغزل بمحبوبه وقد قصر تمنيه على أن يكون هو ومحبوبه كبعيرين أجربين، لا يقربهما أحد، ولا يقربان أحدا، إلا طردهما، وهذا من الأماني السخيفة، وله في غير هذه الأمنية مندوحات كثيرة، وما أشبه هذا بقول القائل:
يا رب إن قدرته لمقبل ** غيري فللأقداح أو للأكؤس

وإذا حكمت لنا بعين مراقب ** في الدهر فلتك من عيون النرجس

فانظر كم بين هاتين الامنيتين.
ومما أخذ على أبي نواس في قصيدته الميمية الموصوفة التي مدح بها الأمين محمد بن الرشيد، وهو قوله:
أصبحت يابن زبيدة ابنة جعفر ** أملا لعقد حباله استحكام

فإن ذكر أم الخليفة في مثل هذا الموضع قبيح.
وكذلك قوله في موضع آخر:
وليس كجدتيه أم موسى ** إذا نسبت ولا كالخيزران

وهذا لغو من الحديث لا فائدة فيه، فإن شرف الأنساب إنما هو إلى الرجال، لا إلى النساء، ويا ليت شعري أما سمع أبو نواس قول قتيلة بنت النضر في النبي صلى الله عليه وسلم:
أمحمد ولأنت نجل كريمة ** من قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما ** من الفتى وهو المغيظ المحنق

فإنها ذكرت الأم بغير اسم الأم، وأبرزت هذا الكلام في هذا اللباس الأنيق.
وكذلك فليكن المادح إذا مدح، وأبو نواس مع لطافة طبعه وذكائه وما كان يوصف به من الفطنة قد ذهب عليه مثل هذا الموضع مع ظهوره.
وليس لقائل أن يعترض على ما ذكرته بقوله تعالى حكاية عن موسى وأخيه هارون عليهما السلام: {قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} فإن الفرق بين الموضعين ظاهر، لأن المنكر على أبي نواس إنما هو التلفظ باسم الأم، وهي زبيدة، وكذلك اسم الجدة، وهي الخيزران وليس كذلك ما ورد في الآية.
فإن قيل: قد ورد في القرآن الكريم ما يسوغ لأبي نواس مقالته، وهو قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فناداه باسم أمه.
قلت الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أن عيسى عليه السلام لم يكن له أب، فنودي باسم أمه ضرورة، إذ لو كان له أب لنودي باسم أبيه، الوجه الآخر: أن هذا النداء إنما هو من الأعلى إلى الأدنى، إذ الله سبحانه وتعالى هو الرب، وعيسى عليه السلام عبده، وهذا لا يكون تفريطا، لأنه لم يعبر عنه بما هو دون منزلته.
على أن أبا نواس لم يوقعه في هذه العثرة إلا ما سمعه عن جرير في مدح عمر بن عبد العزيز كقوله:
وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ** وتكفي الممحل السنة الجمادا

وكذلك قال فيه كثير عزة أيضا.
وليس المعيب من هذا بخاف، فإن العرب قد كان يعير بعضها بعضا بنسبته إلى أمه دون أبيه، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقال له: ابن حنتمة، وإنما كان يقول ذلك من يغض منه، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بن صفية: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» فإن صفية كانت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نسبه إليها رفعا لقدره في قرب نسبه منه، وأنه ابن عمته، وليس هذا كالأول في الغض من عمر رضي الله عنه في نسبه إلى أمه.
وقد عاب بعض من يتهم نفسه بالمعرفة قول أبي نواس في قصيدته السينية التي أولها:
نبه نديمك قد نعس

فقال من جملتها:
ورث الخلافة خامساً ** وبخير سادسهم سدس

قال: وفي ذكر السادس نظر، ويا عجبا له مع معرفته بالشعر كيف ذهب عليه هذا الموضع؟ أما قرأ سورة الكهف، يريد قوله تعالى: {ويقولون خمسة سادسهم كلبهم} وهذا ليس بشيء، لأنه قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه، وهو قوله تعالى: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} ومما عبته على البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان في قصيدته المشهورة عند لقائه الأسد التي مطلعها:
أجدك ما ينفك يسري لزينبا

فقال:
شهدت لقد أنصفته حين تنبري ** له مصلتا عضبا من البيض مقضبا

فلم أر ضرغامين أصدق منكما ** عراكا إذا الهيابة النكس كذبا

قوله: إذا الهيابة النكس، تفريط في المدح، بل كان الأولى أن يقول: إذا البطل كذب، وإلافأي مدح في إقدام المقدم في الموضع الذي يفر منه الجبان؟ وألا قال كما قال أبو تمام:
فتى كلما أرتاد الشجاع من الردى ** مفرا غداة المأزق ارتاد مصرعا

وعلى أسلوب البحتري ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة:
وإني لقوال لعافي مرحباً ** وللطالب المعروف إنك واجده

وإني لمن أبسط الكف بالندى ** إذا شنجت كف البخيل وساعده

وهذا معيب من جهة أنه لا فضل في بسط يده عند قبض يد البخيل، وإنما الفضيلة في بسطها عند قبض الكرام أيديهم.
ومن هذا الباب قول أبي تمام:
يقظ وهو أكثر الناس إغضا ** ء على نائل له مسروق

فإنه أراد أن يمدح فذم.
ومما هو أقبح من ذلك قوله أيضا:
تثفى الحرب منه حين تغلي ** مراجلها بشيطان رجيم

وقد استعمل هذا في شعره حتى أفحش، كقوله،
أنت دلو وذو السماح أبو مو ** سى قليب وأنت دلو القليب

ومراده من ذلك أنه جعله سببا لعطاء المشار إليه كما أن الدلو سبب في امتياج الماء من القليب، ولم يبلغ هذا المعنى من الإغراب إلى حد يدندن أبو تمام حوله هذه الدندنة، ويلقيه في هذا المثال السخيف، على أنه لم يقنع بهذه السقطة القبيحة في شعره، بل أوردها في مواضع أخرى منه، فمن ذلك قوله:
ما زال يهذي بالمكارم والعلا ** حتى ظننا أنه محموم

فإنه أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللهج بالمكارم والعلا، فقال ما زال يهذي وما أعلم ماكانت حاله عند نظم هذا البيت: وعلى نحو منه جاء قول بعض المأخرين:
ويلحقه عند المكارم هزة ** كما انتفض المجهود من أم ملدم

وهذا وأمثاله لايجوز استعماله، وإن كان المعنى المقصود به حسنا، وكم ممن يتأول معنى كريما فأساء في التعبير عنه حتى صار مذموما، كهذا وأمثاله.
ومن أحسن ما قيل في مثل هذا الموضع قول ابن الرومي:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ** هز الكماة عوالي المران

كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم ** فالأريحية منهم بمكان

ومن شاء أن يمدح فليمدح هكذا، وإلا فليسكت ووجدت أبا بكر محمد بن يحيى المعروف بالصولي قد عاب على حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسياقنا يقطرن من نجدة دما

وقال إنه جمع الجفنات، والأسياف جمع قلة، وهو في مقام فخر، وهذا مما يحط من المعنى ويضع منه، وقد ذهب إلى هذا غيره أيضا، وليس بشيء، لأن الغرض إنما هو الجمع، فسواء أكان جمع قلة أم جمع كثرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} أفترى نعم الله أكانت قليلة على إبراهيم صلوات الله عليه، وكذلك ورد قوله عز وجل في سورة النمل: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} فقال: {واستيقنتها أنفسهم} فجمع النفس جمع قلة، وما كان قوم فرعون بالقليل حتى تجمع نفوسهم جمع قلة، بل كانوا مئين ألوفا، وهذا أيضاً مما يبطل قول الصولي وغيره في مثل هذا الموضع، وكذلك ورد قوله عز وجل: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} والنفوس المتوفاة والنائمة لا ينتهي إلى كثرتها كثرة، لأنها نفوس كل من في العالم.
واعلم أن للمدح ألفاظا تخصه، وللذم ألفاظا تخصه، وقد تعمق قوم في ذلك حتى قالوا: من الأدب ألا تخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب، وهذا غلط بارد، فإن الله الذي هو ملك الملوك قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقد ورد أمثال هذا في مواضع من القرآن الكريم غير محصورة، إلا أني قد راجعت نظري في ذلك، فرأيت الناس بزمانهم أشبه منهم بأيامهم، والعوائد لا حكم لها، ولا شك أن العادة أوجبت للناس مثل هذا التعمق في ترك الخطاب بالكاف، لكني تأملت أدب الشعراء والكتاب في هذا الموضع فوجدت الخطاب لا يعاب في الشعر ويعاب في الكتابة إذا كان المخاطب دون المخاطب درجة، وأما إن كان فوقه فلا عيب في خطابه إياه بالكاف، لأنه ليس من التفريط في شيء.
فمن خطب الكاف قول النابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وكذلك قوله أيضا:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب

وعليه جاء قول بعض المتأخرين أيضا، فقال أبو نواس:
إليك أبا المنصور عذبت ناقتي ** زيارة خل وامتحان كريم

لأعلم ما تأتي وإن كنت عالما ** بأنك مهما نأت غير ملوم

وكذلك ورد قول السلامي:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ** قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

وبشرت آمالي بملك هو الورى ** ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

وعليه ورد قول البحتري:
ولقد أتيتك طالبا فبسطت من ** أملي وأطلب جود كفك مطلبي

وجل خطاب الشعراء للممدوحين إنما هو بالكاف، وذلك محظور على الكتاب، فإنه ليس من الأدب عندهم أن يخاطب الأدنى الأعلى بالكاف، وإنما يخاطبه مخاطبة الغائب لا مخاطبة الحاضر، على أن هذا الباب بجملته يوكل النظر فيه إلى فطانة الخطيب والشاعر، وليس مما يوقف فيه على المسموع خاصة.
ومن ألطف ما وجدته أنك إذا خاطبت الممدوح أن تترك الخطاب بالأمر بأن تقول: افعل كذا وكذا، وتخرجه مخرج الاستفهام، وهذا الأسلوب حسن جدا، وعليه مسحة من جمال، بل عليه الجمال كله.
فما جاء منه قول البحتري في قصيدة أولها:
بودي لو يهوى العذول ويعشق

فقال منها:
فهل أنت يا ابن الراشدين مختمي ** بياقوتة تبهى علي وتشرق

وهذا من الأدب الحسن في خطاب الخليفة، فإنه لم يخاطبه بأن قال: ختمني بياقوتة، على سبيل الأمر بل خاطبه على سبيل الاستفهام، وقد أعجبني هذا المذهب، وحسن عندي.
وقد حذا حذو البحتري شاعر من شعراء عصرنا فقال في مدح الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد من قصيدة له على قافية الدال، فقال من أبيات يصف بها قصده:
أمقبولة يا ابن الخلائف من فمي ** لديك بوصفي غادة الشعر رؤده

فقوله أمقبولة من الأدب الحسن الذي نسج فيه على منوال البحتري.
وهذا باب مفرد، وهو باب الاستفهام في الخطاب، وإذا كان الشاعر فطنا عالما بما يضعه من الألفاظ والمعاني تصرف في هذا الباب بضروب التصرفات، واستخرج من ذات نفسه شيئا لم يسبقه إليه أحد.
واعلم أن من المعاني ما يعبر عنه بألفاظ متعددة ويكون المعنى المندرج تحتها واحدا، فمن تلك الألفاظ ما يليق استعماله بالمدح ومنها ما يليق استعماله بالذم، ولو كان هذا الأمر يرجع إلى المعنى فقط لكانت جميع الألفاظ الدالة عليه سواء في الاستعمال، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف دون الأصل.
ولنضرب له مثالا فنقول: هل يجوز أن يخاطب الملك فيقال له: وحق دماغك، قياسا على وحق رأسك؟ وهذا يرجع إلى أدب النفس دون أدب الدرس.
فإذا أراد مؤلف الكلام أن يمدح ذكر الرأس والهامة والكاهل، وما جرى هذا المجرى، فإذا أراد أن يهجو ذكر الدماغ والقفا والقذال، وما جرى هذا المجرى، وإن كانت معاني الجميع متقاربة، ومن أجل ذلك حسنت الكناية في الموضع الذي يقبح فيه التصريح.
ومن أحسن ما بلغني من أدب النفس في الخطاب أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل قباث بن أشيم، فقال له: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد، فانظر إلى أدب هذا العربي الذي من شأنه وشأن أمثاله جفاء الخلق والبعد عن فطانة الآداب.
وأما الإفراط فقد ذمه قوم من أهل هذه الصناعة، وحمده آخرون، والمذهب عندي استعماله فإن أحسن الشعر أكذبه، بل أصدقه أكذبه، لكنه تتفاوت درجاته، فمنه المستحسن الذي عليه مدار الاستعمال، ولا يطلق على الله سبحانه وتعالى، لأنه مهما ذكر به من المعاملات في صفاته فإنه دون ما يستحقه.
ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة:
وأنا المنية في المواطن كلها ** والطعن مني سابق الآجال

وقد يروى بالياء، وكلا المعنيين حسن، إلا أن الياء أكثر غلوا.
ومما جاء على نحو من ذلك قول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ** هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

ومنه ما يستهجن كقول النابغة الذبياني:
إذا ارتعشت خاف الجبان رعاثها ** ومن يتعلق حيث غلق يفرق

وهذا يصف طول قامتها، لكنه من الأوصاف المنكرة التي خرجت بها المغالاة عن حيز الاستحسان.
وكذلك ورد قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه ** لتخافك النطف التي لم تخلق

وهذا أشد إفراطا من قول النابغة. ويروى أن العتابي لقي أبا نواس فقال له: أما استحييت الله حيث تقول، وأنشده البيت، فقال له: وأنت ما راقبت الله حيث قلت:
ما زلت في غمرات الموت مطرحا ** يضيق عني وسيع الرأي من حيلي

فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ** حتى اختلست حياتي من يدي أجلي

قال له العتابي: قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك، ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا، وقد أراد أبو نواس هذا المعنى في قالب آخر، فقال:
كدت منادمة الدماء سيوفه ** فلقلما تحتازها الأجفان

حتى الذي في الرحم لم يك صورة ** لفؤاده من خوفه خفقان

وما يجيء في هذا الباب ما يجري هذا المجرى.
وقد استعمل أبو الطيب المتنبي هذا القسم في شعره كثيرا، فأحسن في مواضع منه، فمن ذلك قوله:
عجاجا تعثر العقبان فيه ** كأن الجو وعث أو خبار

ثم أعاد هذا المعنى في موضع آخر، فقال:
عقدت سنابكها عثيراً ** لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا

وهذا أكثر مغالاة من الأول.
ومن ذلك قوله أيضا:
كأنما تتلقاهم لتسلكهم ** فالطعن يفتح في الأجواف ما يسع

وعلى هذا ورد قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها

لكن أبو الطيب أكثر غلوا في هذا المعنى، وقيس بن الخطيم، أحسن لأنه قريب من الممكن، فإن الطعنة تنفذ حتى يتبين فيها الضوء، وأما أن يجعل المطعون مسلكا يسلك كما قال أبو الطيب، فإن ذلك مستحيل، ولا يقال فيه بعيد.
وأما الاقتصاد فهو وسط بين المنزلتين، والأمثلة به كثيرة لا تحصى، إذ كل ما خرج عن الطرفين من الإفراط والتفريط فهو اقتصاد، ومن أحسنه أن يجعل الإفراط مثلا، ثم يستثنى فيه بلو أو بكاد وما جرى مجراهما، فمن ذلك قوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وكذلك قوله عز وجل: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} وقد ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا، ومما ورد منه شعرا قول الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته ** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وكذلك ورد قول البحتري:
لو أن مشتاقا تكلف فوق ما ** في وسعه لسعى إليك المنبر

وهذا هو المذهب المتوسط.

.النوع السادس والعشرون: في الاشتقاق:

اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس، وليس الأمر كذلك، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام، وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم: جانس الشيء الشيء، إذا ماثله وشابهه، ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس، وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا، فالتجنيس إذن ينقسم قسمين: أحدهما تجنيس في اللفظ، والآخر تجنيس في المعنى، فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه، وقد تقدم باب الصناعة اللفظية، وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس، وسمي الاشتقاق: أي أحد المعنيين مشتق من الآخر.
وهو على ضربين: صغير وكبير.
فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب س ل م، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو سلم وسالم وسلمان وسلمى، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة.
والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولاً لمسمى أول، ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول، كقوله ضرير اسم للأعمى، والضر: ضد النفع، والضراء: الشدة من الأمر، والضر بالضم: الهزال وسوء الحال، والضرر: الضيق، والضرة: إحدى الزوجتين، فإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر، وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء، إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه، لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة، لأنه ضدها، قيل: من أجل التفاؤل بالسلامة، وعلى هذا جاء غيره من الأصول، كقولنا: هشمك هاشم، وحاربك محارب، وسالمك سالم، وأصاب الأرض صيب، فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد، أما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك، وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب، وأما سالم فمن السلامة، وهو اسم فاعل من سلم، وأما الصيب فهو المطر الذي يشتد صوبه: أي وقعه على الأرض، ولا يقاس على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله، وعصية عصت الله» فإن أسلم وغفار وعصية أسماء قبائل، ولم تسم أسلم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة، ولا عصية من تصغير عصا، وهذا هو التجنيس، وليس بالاشتقاق، والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق.
ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري:
أمحلتي سلمى بكاظمة اسلما

وكذلك قول الآخر:
وما زال معقولا عقال عن الندى ** وما زال محبوسا عن الخير حابس

وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس، حيث قيل فيه: معقول وعقال، ومحبوس وحابس، وليس الأمر كذلك، وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيراً على من لم يتقن معرفته.
وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضاً واحد، فهذا مشتق من هذا: أي قد شق منه.
وكذلك ورد قول عنترة:
لقد علم القبائل أن قومي ** لهم حد إذا لبس الحديد

فإن حدا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد.
وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها.
ولنضرب لذلك مثالا، فنقول: إن لفظة: ق م ر من الثلاثي لها ست تراكيب، وهي: ق ر م، ق م ر، ر ق م، ر م ق، م ق ر، م ر ق، فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد، وهو القوة والشدة، فالقرم: شدة شهوة اللحم، وقمر الرجل، إذا غلب من يقامره، والرقم: الداهية، وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره، وعيش مرمق: أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضا، والمقر: شبه الصبر، يقال: أمقر الشيء، إذا أمر، وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة، ومرق السهم، إذا نفذ من الرمية، وذلك لشدة مضائه وقوته.
واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها، فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة وس ق فإن لها خمس تراكيب، وهي: وس ق، وق س، س وق، ق س و، ق وس، وسقط من جملة التراكيب قسم واحد، وهو س ق و، وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا، فالوسق من قولهم: استوسق الأمر: أي اجتمع وقوي، والوقس: ابتداء الجرب، وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء، والسوق: متابعة السير، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق، والقسوة: شدة القلب وغلظه، والقوس معروفة، وفيها نوع من الشدة والقوة، لنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد.
واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها، لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه.
إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير، وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه، والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا، وأيضا فإن الحسن اللفظ الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير، ولا يقع في الاشتقاق الكبير، ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين هاهنا، وهما ق ر م وو س ق إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقا، لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس، ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك.